العلماء وظاهره الاحتباس الحراري


ناصر البدري: هكذا بدا العام الماضي على ظهر كوكب الأرض، تسارع في ذوبان القطبين الشمالي والجنوبي، فيضانات عارمة، حرائق مهولة، جفاف ومجاعات قاتلة، أعاصير مدمرة وأمواج عاتية، بيوت مهدمة وأسر مشردة، دموع ومآس وأحزان، كوكب الأرض مأوى ومستقر مليارات البشر ومصدر رزقهم وحياتهم منذ آلاف السنين، لأول مرة في تاريخ هذا الكوكب يتفق علماء كثيرون وسياسيون ونشاط بيئة على أن السبب في هذا التردي المتزايد في الحياة على ظهر هذا الكوكب هو تسارع ظاهرة الاحتباس الحراري، اتفاق عززه اكتشاف بعض العلماء مؤخرا أن التيارات البحرية التي تلطف الأجواء في نصف الكرة الأرضية الشمالية بدأت تتباطأ وقد تتوقف مما قد يؤدي إلى دخول نصف الكرة الشمالي في عصر جليدي مصغر فيما يعاني الجزء الآخر ارتفاع كبير في درجات الحرارة، ذلك كله يحمل إنذار لكل سكان هذا الكوكب لتدارك الوضع أو مواجهة مستقبل مجهول، بعض العلماء يتوقعون بداية حدوث ذلك خلال سنوات عشر فقط، فهل ذلك ممكن وواقعي؟ وهل ظاهرة الاحتباس الحراري هي السبب في هذا أم أن هناك أسباب أخرى؟ وهل فعلا بدأ العد التنازلي كما يزعم البعض؟

إنذار من الأعماق

ناصر البدري: من معهد علوم البحار في مدينة ساوثهامتون نبدأ رحلتنا ومن هنا أيضا بدأ فريق من العلماء البريطانيين رحلات بحرية عدة لدراسة التيارات البحرية الدافئة القادمة من المحيط الهادئ نحو المحيط الأطلنطي على امتداد نصف قرن من الزمان، الباحثون قاموا بوضع منصات صغيرة عائمة في نقاط مختلفة على امتداد الجزء الشمالي للمحيط الأطلنطي، ثم قاموا بعد ذلك على مدى خمسين عام بجمع تلك المنصات وتحليل البيانات، النتائج كانت مذهلة ومقلقة في نفس الوقت.

ميريك شاركوس- معهد علوم البحار والمحيطات بساوثهامتون: زملاء لنا هنا في معهد علوم البحار والمحيطات قاموا برحلة خامسة حيث حدثت خمس رحلات على امتداد نصف قرن وبعد تحليل المعلومات من تلك الرحلات لاحظنا تغير كبير في التيارات البحرية الملطفة خلال الاثنى عشر عام الأخيرة.

ناصر البدري: نتائج هذا الاكتشاف أكدتها أبحاث أخرى من معاهد ومراكز مختلفة من بينها مركز الأرصاد والتغيرات المناخية في مدينة أكستر البريطانية.

سايمون براون- مركز الأرصاد والتغيرات المناخية: هناك إجماع عام على أن التيارات البحرية الملطفة ستتباطأ وهذا يعني أن أوروبا ستشهد تراجع في درجات الحرارة وأن أثار الاحتباس الحراري تبدو أكبر.

ناصر البدري: لأول مرة يدرك الباحثون أهمية هذه التيارات البحرية ليس فقط بالنسبة لتلطيف الأجواء في فصل الشتاء وإنما كأحد أهم عناصر ضبط المناخ بالنسبة لكوكب الأرض بأسره.

ميريك شاركوس: التيارات البحرية الملطفة تأتي بالمياه الدافئة نحو المناطق الشمالية لتصل شمال الأطلنطي وفي أثناء عبورها تجلب أجواء ملطفة في فصل الشتاء لبريطانيا ونصف القرى الشمالي وكلما اقتربت من المناطق الباردة شمالا انخفضت درجتها وارتفعت نسبة الكثافة فيها وبفعل ثقلها تنزل إلى قاع البحر ثم تعاود رحلتها مرة أخرى نحو المحيط الهادئ ولو توقفت هذه الحركة كما حدث في الماضي فستنخفض درجات الحرارة.

ناصر البدري: دراسة الترسبات التراكمية في قاع البحر أكدت أن هذه التيارات توقفت في السابق بشكل كبير مما أدى إلى دخول كوكب الأرض في عصور جليدية طويلة أدت إلى اختفاء الكثير من الكائنات النباتية والحيوانية.

ميريك شاركوس: أثار توقف التيارات ستضرب مناطق نصف الكرة الشمالي، فإن حدث تباطؤ طفيف فأن ذلك سيعني تراجع درجات الحرارة بدرجتين أو ثلاث، أما توفقها بالكامل فيعني موجات برد شديدة في نصف الكرة الشمالي والأخطر من ذلك بالنسبة للدول القريبة من خط الاستواء فأنها ستشهد شحا كبيرا في موارد المياه وما سيلحقه ذلك على الغطاء النباتي والإنتاج الزراعي خاصة أن بعض تلك الدول تعاني جفافا وشحا في المياه وهذا سيخلق مشاكل ملحة بدول خط الاستواء.

ناصر البدري: ِأسباب تباطؤ هذه التيارات واحتمال توقفها بالكامل في أي وقت حيرت العلماء ولماذا بدأت عملية التباطؤ خلال العشرة الأعوام الأخيرة فقط، للإجابة على هذه الأسئلة بدأ الباحثون في جمع عينات من أماكن مختلفة من المحيطين الأطلنطي والهادئ وغيرها من المحيطات والبحار الأخرى.

ميريك شاركوس: أحد أهم عوامل توقف تلك التيارات ارتفاع كمية المياه العذبة التي تصب في مناطق شمال الأطلنطي، في الماضي نعلم أن التيارات توقفت بسبب ذوبان الجليد شمالا لأن حدوث ذلك يغير نسبة كثافة المياه، الوضع الطبيعي هو أن المياه الدافئة عندما تبرد ترتفع كثافتها وتنزل إلى قاع المحيط، أما إذا ازدادت كمية المياه العذبة فأن كثافتها ستظل خفيفة ويؤدي ذلك إلى كسر دورتها ومع تسارع الاحتباس الحراري وذوبان القطب الشمالي فإن التيارات ستتوقف مستقبلا، النماذج المناخية الحالية تؤكد أنها تتباطأ.

ناصر البدري: هذا الاكتشاف دق نواقيس الخطر في عواصم العالم أجمع نظرا للآثار الكارثية التي قد يتركها توقف هذه التيارات على المناخ وفجأة أصبحت قضية الاحتباس الحراري من أبرز الأولويات.

سايمون براون: لقد بدأنا نلاحظ تحطيم أرقاما قياسية جديدة في درجات الحرارة سواء صعودا أو هبوطا على مستوى الكوكب كله، هذه الظاهرة تشبه ما حدث في العصر الجليدي الأخير حيث كانت هناك إنذارات شبيهة بما نشاهده الآن ولو كنت أثناء انتهاء العصر الجليدي الأخير فإن التغيرات كانت ستكون درامية وكل النماذج التي لدينا تشير لتسارع هذه التغيرات.

إيفن هاريس- لجنة الشؤون العلمية بمجلس العموم البريطاني: إنها مشكلة عالمية ولا توجد منطقة بمعزل عن هذه التغيرات المناخية ومع تباطؤ التيارات البحرية الملطفة للأجواء في المحيط الأطلسي وارتفاع مستويات البحار والمحيطات وموجات البرد القارس الأخيرة كل هذه ستنعكس على الجميع ولن تفرق بين الانتماءات السياسية أو الجغرافية.

كاثرين بيرس- جمعية أصدقاء الأرض: أنه طوفان من الحقائق والمعلومات حول أثار التغيرات المناخية خاصة خلال الأعوام الأخيرة والجميع بدؤوا يلمسون تابعات هذه التغيرات خاصة الفقراء الذين لا حيلة لهم أو سبيل لمقاومة ظاهرة الاحتباس الحراري.

ناصر البدري: ديفد كاميرون زعيم حزب المحافظين المعارض في بريطانيا قد يكون الزعيم السياسي الوحيد الذي قطع مسافة أربعة الآلاف ميل ليرى بأم عينه أثار الاحتباس الحراري في القطب الشمالي، كاميرون ذهل للأخاديد العملاقة التي بدأت تظهر في الجليد بسبب الذوبان المتسارع له، هذه الخطوة الجريئة رغم تشكيك البعض في فائدتها إلى أن كاميرون يعتقد أنها ستلفت الانتباه إلى التغيرات المناخية التي أصبحت تهدد الجميع.

ديفد كاميرون: أعتقد أن قضاء بعض الوقت هنا ورؤية آثار التغيرات المناخية مهم جدا والحقيقة هو أنني كزعيم للمعارضة ا أستطيع القيام بالكثير ولكن عندما أثير هذه القضايا الآن فإن الحكومة تثيرها وهذا حدث بالفعل، وزير المالية يتحدث عنها وهذا خبر سار.

ناصر البدري: لقرون عدة أمدت هذه التيارات البحرية بريطانيا ونصف الكرة الأرضية الشمالي بأجواء دافئة في فصل الشتاء، غير أن تسارع ظاهرة الانحباس الحراري استنادا إلى عدد كبير من العلماء ينذر ربما بتباطؤ هذه التيارات البحرية أو حتى توقفها مما قد يؤدي إلى تراجع كبير في درجات الحرارة وتغيرات مناخية تمس الكرة الأرضية برمتها وإذا كان بعض الخبراء يذهبون إلى حد التنبؤ بحدوث عصر جليدي مصغر يضرب نصف الكرة الشمالي إلا أن آخرين يشددون على أن تسارع ظاهرة الاحتباس الحراري قد يزيد الوضع سوءً دون تحديد تبعات ذلك على المدى المتوسط أو البعيد.

ميريك شاركوس: خلال القرن السابع عشر في بريطانيا حدث عندنا ما يمكن تسميته بعصر جليدي مصغر والفرق بين درجات الحرارة عندئذ والآن هو درجة واحدة أو درجتان فقط ولو تباطأت التيارات فإننا سنشهد تراجعا بدرجة أو درجتين وقد يترك ذلك أثرا على حياتنا هنا في بريطانيا ونصف الكرة الشمالي، أما إذا توقفت التيارات بالكامل فإننا سنشهد تراجعا بعدة درجات مئوية وسيغطي الجليد النصف الشمالي لشهور وفي منطقة الشرق الأوسط ستتراجع درجات الحرارة بدرجتين وسيتأثر المناخ.

ناصر البدري: هنا في متحف لندن يحتفظون بسجلات وصور لقرون طويلة كان نهر التايمز يتجمد خلالها بالكامل أثناء فصل الشتاء بسبب تراجع حاد في درجة الحرارة.

أليكس ورمر- باحث بمتحف لندن: في القرن السابع عشر كانت هناك فصول شتاء شديدة البرودة والصورة خلفي تظهر كيف أن نهر التايمز تجمد بالكامل وقد أدى ذلك إلى بطالة حادة بالنسبة لعمال النقل النهري الذين كانوا يكسبون رزقهم من خلال نقل البضائع والأشخاص عبر ضفتي النهر وغيرها من الأنشطة الاقتصادية الأخرى الكثيرة التي كانوا يقومون بها وقاموا تبعا لذلك بنصب أكشاك لبيع أغراض متنوعة لكسب لقمة العيش وبعضهم حول سفنه إلى عربات تجرها خيول لنقل الأشخاص عبر الجليد كسيارات التاكسي.

ناصر البدري: الفرق بين درجات الحرارة أثناء تلك الحقبة والزمن الحالي درجة واحدة أو درجتين فقط، رغم ذلك وصل سمك الجليد في بعض الأحيان إلى عدة أمتار.

أليكس ورمر: النهر كله تجمد والجليد وصل سمكه إلى أعماق كبيرة حتى إن عربات ضخمة كانت تسير عليه وهي محملة بالأمتعة وإذا توقفت التيارات البحرية الدافئة أو تباطأت فإن درجات الحرارة هنا ستكون شبيه بالمناطق القطبية شمالي كندا وسيتجمد الساحل بالكامل وستكون هذه صدمة للشعب البريطاني.

ناصر البدري: قبل نحو ثلاثة قرون تجمدت هذه المياه هنا في نهر التايمز في لندن بشكل كامل في فصل الشتاء بسبب تراجع درجات الحرارة بدرجة واحدة أو درجتين فقط وتكرار هذه الظاهرة وتجمد هذه المياه مرة أخرى قد يحدث إذا ما توقفت التيارات البحرية الملطفة ومما سيزيد الوضع سوء وربما كارثي تسارع ذوبان المحيطين الشمالي والجنوبي بشكل غير مسبوق، كل ذلك قد يعجل في توقف سريع ومفاجئ للتيارات البحرية الدافئة وحدوث كوارث مناخية غير معهودة في العصر الحديث.

سايمون براون: النماذج التي وضعناها تشير إلى أن هناك ارتفاع بثلاث درجات مئوية سينتج عنه ذوبان شديد للقطبين الشمالي والجنوبي مما سيؤدي إلى ارتفاع في منسوب مياه البحار والمحيطات بشكل كبير جدا، غير أن ذلك طبقا لنماذجنا قد يستغرق حدوثه عدة قرون قبل أن يذوب القطبان بالكامل.

مارغريت باكيت- وزيرة البيئة البريطانية: حتى ولو استطعنا الإبقاء على ارتفاع درجات الحرارة عند مستوى درجتين مع الصعوبة البالغة لتحقيق ذلك فإنه سيكون مستوى كبيرا وقد يؤدي إلى ذوبان القطبين الشمالي والجنوبي بالكامل ولكن ذلك سيحدث عبر عدة قرون وعندئذ فلن نقدر على منعه.

ناصر البدري: في المركز البريطاني لمسح القطب الجنوبي درجوا على دراسة التغيرات المناخية والبيئية والبيولوجية في القطب الجنوبي منذ نحو قرن من الزمان، رحلات عدة قام بها العلماء إلى هذه المناطق النائية والوعرة وغير المضيافة وينظر هؤلاء الخبراء إلى هذه المناطق بمثابة المكيف الهوائي الذي يتحكم في الأجواء في الكرة الأرضية برمتها.


"
منطقة خط الاستواء تعمل بمثابة السخان، أما منطقتا القطب الشمالي والجنوبي فتعملان بمثابة جهاز تكييف الهواء الذي يضبط الأجواء في الكوكب بأسره، وأي تغيرات لهذا الضابط ستمس الكوكب
"
          ألان روجر
ألان روجر- مركز مسح القطب الجنوبي: الطريقة التي أنظر بها إلى عمل كوكب الأرض هي أن منطقة خط الاستواء تعمل بمثابة السخان، أما منطقتا القطب الشمالي والجنوبي فتعملان بمثابة جهاز تكييف الهواء وتصور ماذا يحدث في غرفة ساخنة عندما يتوقف جهاز التكييف أو يصبح عمله غير مجدي فالغرفة ستصبح أكثر حرارة ورطوبة وسيصبح صعب العيش فيها وهذا هو الدور الذي تقوم به منطقتا القطب الشمالي والجنوبي.. تقومان بضبط الأجواء في الكوكب بأسره وأي تغيرات لهذا الضابط فإن التغيرات ستمس الكوكب وفق هذا الوصف.


ناصر البدري: المركز لديه محطات رصد عدة في القطب الجنوبي حيث يقيم علماء وباحثون على مدار العام، نتائج الأبحاث التي يقوم بها هؤلاء الباحثون تؤكد على تسارع ذوبان القطب الجنوبي بشكل غير مسبوق.

ألان روجر: التوقعات التي يقدمها العلماء ليست مطلقة، لكن لو سألت علماء الطقس فإن 99% منهم سيتفقون على أن هناك تغيرات جذرية قد حدثت على الطقس منذ عام 2001 فقط ومع الأسف فإن الأخبار أسوأ بكثير من التي حصلنا عليها في الماضي، منطقة المحيط الجنوبي والشمالي شهدتا ذوبان أكثر مما كنا نتوقع ودرجات الحرارة في القطبين تواصل الارتفاع بشكل عام رغم وجود بعض المناطق في المحيط الجنوبي لا تزال درجات الحرارة فيها مستقرة على الأقل في الوقت الراهن، الكثير من المؤشرات التي حصلنا عليها في السابق والآن تفيد بارتفاع درجات الحرارة وتأثيراتها على الكائنات البحرية، مثال ذلك الجمبري البحري في المناطق الشمالية الذي يعتمد عليه كثيرا من الكائنات البحرية كمصدر رئيسي للغذاء.. تراجعت كمياته ربما بأكثر من 30% على امتداد فترة تصل إلى ثلاثين عاما .
 
 
 
 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق